"العلاج النفسي للمجانين فقط": تفنيد الخرافات حول طلب المساعدة النفسية

"العلاج النفسي للمجانين فقط": تفنيد الخرافات حول طلب المساعدة النفسية

صحتك النفسية اولا:

هل تعلم أن شخصاً واحداً من بين كل خمسة أشخاص في بعض مجتمعاتنا العربية قد يحتاج إلى دعم نفسي متخصص؟هذا الرقم لا يمثل حالات نادرة أو بعيدة، بل يمثل جيراننا وأصدقاءنا، وربما يمثلنا نحن في مرحلة ما من حياتنا العلاج النفسي كأداة للقوة والنمو الشخصي.

"العلاج النفسي للمجانين فقط": تفنيد الخرافات حول طلب المساعدة النفسية
"العلاج النفسي للمجانين فقط": تفنيد الخرافات حول طلب المساعدة النفسية

أ/ الخرافة الأولى: "لستُ مجنوناً!" لماذا العلاج النفسي للجميع؟

تُعد هذه الخرافة، التي تربط بشكل حصري بين العلاج النفسي والاضطرابات العقلية الشديدة أو ما يُعرف بـ"الجنون"، الحاجز الأكبر أمام طلب المساعدة.

 هذا التصور النمطي، الذي تغذيه أحياناً صور سلبية في وسائل الإعلام ، يتجاهل حقيقة أن غالبية من يلجؤون للمساعدة النفسية هم أناس عاديون يواجهون تحديات الحياة اليومية.  

إن الأرقام والإحصائيات ترسم صورة مختلفة تماماً. تشير البيانات إلى أن الاكتئاب والقلق بمفردهما يمثلان نحو 73% من الاضطرابات النفسية لدى مستخدمي منصات العلاج النفسي في العالم العربي.

 والأمر أبعد من ذلك، حيث تتوقع منظمة الصحة العالمية أن يصبح الاكتئاب هو المرض الأول عالمياً بحلول عام 2030، وهو اضطراب قد يمر به أكثر من 80% من البشر في مرحلة ما من حياتهم. هذه الأرقام تؤكد أن هذه التجارب هي جزء من الحالة الإنسانية، وليست وصمة تقتصر على فئة معينة.  

اقرأ ايضا : كيف تساعد التمارين الرياضية في مكافحة القلق والاكتئاب؟

إن نطاق العلاج النفسي أوسع بكثير مما يعتقده معظم الناس. فهو ليس فقط لعلاج الأمراض، بل هو أيضاً أداة للنمو والتكيف. يلجأ الناس للمساعدة المتخصصة لمجموعة واسعة من الأسباب "العادية" تماماً، منها:

  • مواجهة تحديات الحياة الكبرى: مثل التعامل مع وفاة شخص عزيز، أو المرور بتجربة طلاق مؤلمة، أو التكيف مع فقدان الوظيفة.  
  • إدارة العلاقات الشخصية: لتعلم كيفية حل الخلافات مع الشريك أو أفراد الأسرة، وتطوير مهارات تواصل أكثر فاعلية وصحة.  
  • التعامل مع الضغوط اليومية: مثل مواجهة الضغط النفسي في العمل، وتجنب الإرهاق الوظيفي، والسعي لتحقيق توازن أفضل بين متطلبات العمل والحياة الشخصية.  
  • تحقيق النمو الشخصي: الرغبة في فهم الذات بشكل أعمق، وتغيير سلوكيات غير صحية كنوبات الغضب، وتحسين جودة النوم، أو بناء ثقة أكبر بالنفس.  
  • التعافي من الصدمات: الشفاء من آثار الحوادث المؤلمة، أو التعرض للعنف، أو النجاة من أي شكل من أشكال الإساءة الجسدية أو النفسية.  

قصص الواقع تجسد هذه الاحتياجات الإنسانية. "زينب"، وهي أم وجدت نفسها مثقلة بالمسؤوليات المبكرة وشعرت بالعجز واليأس لدرجة التفكير في الانتحار، وجدت في الجلسات النفسية ملاذاً آمناً ومساحة لإعادة بناء حياتها.

وكذلك "عمار"، الشاب الذي سلبت الحرب أحلامه وتركته يعاني من الكوابيس ونوبات القلق، وجد في الدعم النفسي سبيلاً للتعامل مع صدماته والمضي قدماً. قصصهم ليست عن "الجنون"، بل عن المعاناة الإنسانية والاستجابة الشجاعة لها بطلب المساعدة.  

ومن المهم فهم أن وصمة العار تخلق حلقة مفرغة ومدمرة. فالخوف من أن يُنظر إليك على أنك "مجنون" يدفع الكثيرين إلى تأخير طلب المساعدة لسنوات، على أمل أن تختفي المشكلة من تلقاء نفسها.

 هذا التأخير يسمح لحالات شائعة مثل القلق والاكتئاب بالتفاقم والتحول إلى حالات حادة. وعندما يصل الشخص أخيراً إلى العيادة في حالة متقدمة، قد يكون التدخل الدوائي ضرورياً لتحقيق الاستقرار بجانب العلاج بالكلام.

ب/ الخرافة الثانية: "ضعف إيمان أم حاجة إنسان؟" العلاج النفسي في منظور الدين والمجتمع:

تنتشر في مجتمعاتنا فكرة مغلوطة تربط بين المعاناة النفسية و"ضعف الإيمان" أو "البعد عن الله رغم أن الإيمان والتقرب من الله يشكلان مصدرًا قويًا للطمأنينة والسكينة، فإن اختزال المرض النفسي في سبب روحي فقط يعد تبسيطًا مخلًا وغير دقيق.
فالمرض النفسي، مثله مثل أي مرض عضوي كالسكري أو أمراض القلب، له أسباب بيولوجية ونفسية واجتماعية معقدة.

إن طلب المساعدة النفسية المتخصصة لا يتعارض إطلاقاً مع الشريعة الإسلامية، بل يتماشى مع مبادئها الأساسية التي تحث على حفظ النفس والأخذ بالأسباب.

  • الأمر النبوي بالتداوي: حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحث عن علاج لكل داء، فقال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برئ بإذن الله". وفي حديث آخر قال: "  

يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء، إلا وضع له شفاء". هذه الأحاديث الشريفة تشمل الأمراض الجسدية والنفسية على حد سواء.  

  • فتاوى العلماء: أكد كبار العلماء المعاصرين على جواز التداوي النفسي. فقد أوصى الشيخ ابن باز رحمه الله بعرض المريض على الأطباء المختصين من أهل الإيمان والتقوى"، في تأكيد واضح على الجمع بين العلم والإيمان.. كما أجاز أهل العلم الاستعانة بالطبيب النفسي المأمون والثقة.  
  • مقاصد الشريعة: يُعد طلب العلاج جزءاً من "حفظ النفس"، وهو أحد المقاصد الخمسة الكبرى للشريعة الإسلامية. فإهمال علاج اضطراب نفسي حاد قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، وهو ما ينهى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: " (وَلاتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ " (البقرة: 195.

المفارقة تكمن في أن الدين، الذي يُستغل أحيانًا كذريعة لتجنب العلاج نتيجة سوء الفهم، يمثل في الواقع مصدر قوة كبير في رحلة التعافي.. المشكلة ليست في الدين، بل في التفسير الخاطئ الذي يخلق تعارضاً وهمياً بين الإيمان والعلم. صحتك النفسية ليس فكرة مستوردة، بل هو جزء أصيل من تراثنا العلمي والإنساني.

العدو الحقيقي الذي يجب مكافحته ليس الدين، بل الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي وصمة العار تؤدي إلى العزلة، وتؤخر العلاج، وتزيد من الشعور بالخجل، وتفاقم الحالة، وهي الحاجز الذي يجب أن نعمل جميعاً على تحطيمه.  

ج/ ما وراء الأدوية: كيف يساعدك العلاج النفسي حقاً؟

من أكثر الخرافات شيوعاً هي أن زيارة الطبيب النفسي ستنتهي حتماً بوصفة طبية لمجموعة من الأدوية التي قد تسبب الإدمان. في الحقيقة،  

العلاج النفسي هو عملية شاملة ومتكاملة، والعلاج الدوائي ليس إلا جزءاً واحداً منها، ولا يتم اللجوء إليه إلا عند الضرورة وبإشراف طبي دقيق، خصوصاً في الحالات المتقدمة التي تأخر علاجها.

جوهر العلاج النفسي يكمن في "العلاج بالكلام" (Psychotherapy)، وهو عبارة عن شراكة تعاونية بينك وبين معالج متخصص، تقوم على الثقة والاحترام المتبادل في بيئة آمنة وسرية تماماً.

إن الهدف ليس مجرد تخفيف الأعراض، بل تزويدك بمهارات وأدوات عملية وملموسة يمكنك استخدامها طوال حياتك. تشمل الفوائد الحقيقية للعلاج ما يلي:  

  • فهم أعمق للذات: يساعدك العلاج على استكشاف مشاعرك وأفكارك وسلوكياتك، وفهم الأسباب الجذرية التي تساهم في معاناتك، مما يمنحك بصيرة أعمق حول نفسك.  
  • تطوير مهارات تأقلم صحية: بدلاً من اللجوء إلى عادات ضارة للتعامل مع الضغط النفسي، تتعلم إستراتيجيات فعالة وبناءة لمواجهة تحديات الحياة اليومية.  
  • تغيير أنماط التفكير السلبية: من خلال أساليب علمية مثبتة مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، تتعلم كيفية التعرف على الأفكار التلقائية السلبية التي تؤثر على مزاجك، وتحديها، واستبدالها بأفكار أكثر واقعية وإيجابية.  
  • تحسين العلاقات: تكتسب مهارات تواصل أفضل، وتتعلم كيفية وضع حدود صحية مع الآخرين، وحل النزاعات بطريقة بناءة، مما ينعكس إيجاباً على علاقاتك الأسرية والاجتماعية.  
  • استعادة الشعور بالسيطرة والمتعة: يساعدك المعالج على استعادة إحساسك بالسيطرة على حياتك، وإعادة اكتشاف الأنشطة والهوايات التي كانت تمنحك شعوراً بالبهجة والرضا.  
  • بناء المرونة النفسية: الهدف الأسمى للعلاج هو تزويدك بالقدرة على مواجهة الصعوبات المستقبلية والخروج منها أقوى وأكثر نضجاً وصلابة.  

ومما يدعو للتفاؤل هو أن النظرة للعلاج النفسي بدأت تتغير، خاصة بين الأجيال الشابة. تشير البيانات إلى أن الشباب (بين 21 و 38 عاماً) والنساء بشكل عام هم أكثر تقبلاً لفكرة العلاج وأقل خوفاً من وصمة العار الاجتماعية.
صحتك النفسية هو استثمار ضروري في جودة الحياة، وأن الفوائد التي يقدمها العلاج هي مهارات حياتية لا تقدر بثمن.

د/ خطوتك الأولى نحو العافية: كيف تبدأ رحلة التعافي؟

إن اتخاذ القرار بطلب المساعدة قد يكون الخطوة الأصعب، ومن الطبيعي تماماً أن تشعر بالتردد أو الخوف. لكن من المهم أن تعرف أن هذه الخطوة ليست علامة ضعف، بل هي أسمى درجات الشجاعة والقوة والوعي الذاتي. الاعتراف بأنك بحاجة إلى الدعم هو بداية رحلة التعافي.  

قد تتساءل: "متى أعرف أنني بحاجة للمساعدة؟". هناك بعض العلامات الواضحة التي قد تشير إلى أن الوقت قد حان للتحدث مع متخصص:

  • تغيرات ملحوظة ومستمرة في أنماط نومك أو شهيتك (سواء بالزيادة أو النقصان).  
  • الشعور بالحزن أو اليأس أو الغضب بشكل متكرر ومكثف.  
  • فقدان الاهتمام بالأنشطة والهوايات التي كنت تستمتع بها في السابق.
  • الاعتماد على آليات تأقلم غير صحية للتعامل مع مشاعرك.
  • عندما تبدأ حالتك النفسية بالتأثير سلباً على أدائك في العمل أو على علاقاتك الشخصية.

إذا شعرت أن هذه العلامات تنطبق عليك، فإليك بعض الخطوات العملية التي يمكنك اتخاذها:

  1. اكسر حاجز الصمت: تحدث مع صديق مقرب أو فرد من العائلة تثق به. مجرد مشاركة ما تمر به يمكن أن يخفف العبء بشكل كبير.
  2. ابحث عن متخصص مؤهل: ابحث عن طبيب نفسي أو معالج نفسي مرخص وذو سمعة جيدة. وقد أصبحت منصات العلاج النفسي عبر الإنترنت خياراً ممتازاً يوفر سهولة الوصول والخصوصية، خاصة لمن يترددون في زيارة العيادات التقليدية.  
  3. تذكر أن العلاج رحلة متكاملة: يعمل العلاج النفسي بشكل أفضل عندما يكون جزءاً من نمط حياة صحي. الاهتمام بصحتك الجسدية من خلال ممارسة الرياضة، والتغذية المتوازنة، والحصول على قسط كافٍ من النوم له تأثير مباشر وإيجابي على صحتك النفسية.
  4.  كذلك، فإن الحفاظ على علاقات اجتماعية داعمة وممارسة تقنيات الاسترخاء كالتنفس العميق أو التأمل يساعد بشكل كبير في إدارة الضغط النفسي.  

إن الاهتمام بالصحة النفسية ليس رفاهية فردية، بل هو ضرورة مجتمعية. إنتاجية الموظف تتأثر عندما يعاني من الإرهاق والضغط النفسي. ، المجتمع الذي يعاني أفراده من صدمات غير معالجة يواجه صعوبة في التعافي والتطور.. لذلك، فإن استثمارك في صحتك النفسية هو استثمار في صحة أسرتك ومكان عملك ومجتمعك بأسره.  

هـ/ وفي الختام: أنت لست وحدك، وطلب المساعدة هو بداية القوة:

يجب أن نتخلى عن فكرة أن العلاج النفسي هو للمجانين أو ضعاف الإيمان. الحقيقة هي أن الاهتمام بصحتك النفسية هو جزء لا يتجزأ من العناية بصحتك العامة، تماماً كاهتمامك بقلبك أو ضغط دمك.

كماأن العلاج النفسي ليس حكراً على فئة معينة، بل هو مساحة آمنة للأقوياء الذين يختارون مواجهة تحدياتهم، وفهم أنفسهم بشكل أفضل، والعمل بوعي من أجل حياة أكثر سعادة ورضا. أنت لست وحدك في هذا الشعور، والمساعدة متاحة وقادرة على إحداث فرق حقيقي.

كن صوتاً للتغيير في دائرتك. تحدث بصراحة وإيجابية عن الصحة النفسية مع عائلتك وأصدقائك. تحدَّ الخرافات عندما تسمعها بلطف وحكمة. كل محادثة شجاعة وكل قصة يتم مشاركتها تساعد على كسر جدار وصمة العار، وتفتح المجال أمام شخص آخر قد يحتاج بشدة إلى الدعم.

ما هي أكبر خرافة سمعتها عن العلاج النفسي، وكيف يمكننا معاً تصحيحها في مجتمعنا؟ شاركنا رأيك في التعليقات لنبدأ الحوار.

اقرأ ايضا : دليلك الشامل للتعامل مع النقد السلبي: 4 خطوات لحماية صحتك النفسية

هل لديك استفسار أو رأي؟

يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال